بورقيبة في روايات خصومه
لطفي عيسى وعبد الجليل بوقرة
تشهد
الساحة السياسية عامة والفكرية على وجه التخصيص اهتماما ملحوظا بتاريخ الحركة
الوطنية وذلك بعد جفوة تواصلت مدة طويلة، مجت خلالها الآذان الحديث عن المحرر
الواحد! والزعيم الأوحد! والمجاهد الأكبر...! وهي ألقاب أفرغت من كل محتوى للإسراف في استعنالها وتفريد شخص واحد بها
دون سواه.
فقد
ساهم التحول الذي عرفه هرم السلطة منذ سنة ونيف في صدور عدة مذكرات سياسية، تعرض
أصحابها إلى عمليات تهميش مقصودة من طرف النظام السابق، الأمر الذي دفعهم إلى
تسجيل شهادات سياسية، بنية الخروج من حالة التعتيم التي ضربت عليهم، والتشفي من
الجناة الذين أجهضوا مسيرتهم بينما كانوا يتحفزون إلى جني ثمار التعب والمكابدة
والاستبسال الذي أظهروه أيام الكفاح ضد المستعمر الفرنسي. ويقينا أن صدور هذه
المذكرات على اثر عزل بورقيبة وفي مدة لا تتجاوز السنة والنيف، يؤكد وبشكل قطعي أن
الكتابة التاريخية في مستوى الشهادات المكتوبة. تمثل تواصلا لا واعيا للنشاط
السياسي وإعلانا للعموم على استعادة الحضور على الساحة بعد حجر وتغييب اذهب
الريادة وطمس الانان الفردي من الذاكرة الجماعية. كما أن هذه العملية تعتبر عن نية
سياسية لدى الحاكم لتجريد السلطة السابقة من شيء من شريعتها أو قداستها بتشجيع
صدور هذه الأعمال التي تدخل ضمن تمش يشجع الراغب في رد الاعتبار دون الإفصاح علنيا
وبشكل مفضوح على مساندة كل من يخطو هذه الخطوة.
وهكذا
ملاحظات يفترض كثيرا من التبصر والتأني تجاه هذه الظاهرة المحدثة والجديدة
والتعامل مع هذه المذكرات بكثير من الحذر والتقصي. وعدم التناغم مع أصحابها من
موقع الثقة المفرطة والاندماج العاطفي الذي حاولوا استدراره كل على طريقته، من
خلال حديثهم عن مضايقات دولة الاستقلال. ذلك أننا نعتقد أن كل من هؤلاء قد رسم وبكثير
من الوضوح سينيغرافيته الخاصة للإحداث التي رواها، متفصيا من الحدث ذاته ودافعا
نفسه إلى صدارة موهومة تربك القارئ، وتكثف شعوره بعمق التهميش الذي تعرض إليه
الراوي. الأمر الذي يفترض منطقيا التعاطف الكلي معه وتهوين زلاته السياسية والإخفاقات
الموضوعية التي دفعته إلى ذلك الوضع. وليس من دليل ابلغ على هذه الحقيقة من سيطرة
الذاتي على كل هذه الأعمال،واعتقاد أصحابها أن بورقيبة هو مصدر تعاستهم والصخرة
التي تكسرت عليها كل أمالهم. فاجتهدوا وبقدر المستطاع لتعرية صورته وإنزاله إلى
مرتبة »
العادية « وإنهاء أسطورة
التفرد التي تعرض فيها إلى تاريخ الحركة الوطنية. غير أنهم لم يجدوا سبيلا إلى هذا
التحجيم كلما تعلق الأمر بتلميع صورتهم الخاصة ودفع أنفسهم إلى مراكز الصدارة في
تعرضهم إلى الأحداث التي عاشوها، تلك التي
كان لبورقيبة في بلورتها موقع الريادة الذي يصعب بل ويستحيل زحزحته منه.
لذلك لم يجد أصحابنا من حل ألا الاقتراب
منه وافترض حميمية خاصة ومميزة بينهم وبينه الأمر الذي نسف نواياهم الرئيسية، وأبلى
في اعتقدنا عناصر المصداقية في طرحهم، الذي بدا تأويليا وفاقدا للصلابة والشفافية
التي تتطلبها شهادة تكتب من اجل التاريخ لا لأي غاية أخرى. وشعورا منا بخطورة هذا
التمشي وهيمنة الذاتي ويلغي بدرجات متفاوتة الموضوعية وينصف الحقيقة أيا كان
شكلها. سنحاول من خلال هذه الورثة فك المعادلات التالية والإجابة عن جملة من الأسئلة
تستجيب في اشكالياتها للمحاور الآتية:
-
ما هو موقع بورقيبة في الحركة الوطنية حسب ما جاء في هذه المذكرات السياسية؟ وما
هي علاقة مصنفيها بالحركة في مستوى أول وبزعميمها أو زعمائها في جانب أخر؟
-
ثم ما هي الصورة التي رسمتها
هذه المذكرات في ذهن القارئ عن شخصية بورقيبة؟ هل تم تحجيمها بشكل مقنع؟ أم أن
لاوعي الرواة جل الصورة عند القارئ تتأرجح
بين الخوف المفضوح والإعجاب المفرط وكلها في بنائنا النفسي التقليدي فضائل مندوبة
وتعبير عن فحولة كاملة وأبوية مطلوبة خاصة عندما يتعلق الشأن بالساسة وأولي الأمر.
-
وأخيرا أين يمكن اختلاف هؤلاء
مع بورقيبة؟ وما هي البدائل التي كانوا يطرحونها؟ هل أزروا خصومه وتبنوا طرحهم؟ أم
تفصوا من هؤلاء وشدوا على يد » الزعيم « وانكروا على غيرهم رفع التحدي الذي لم يكونوا هم قادرين على رفعه؟
كل هذه الأسئلة تحتاج إلى التوضيح، ولن يدعي هذا المقال الآتيان عليها بقدر ما
يهمه بسطها وإنضاجها، حتى توضع هذه الأعمال في مدارها ويفصل غثها عن سمينها.
ويتجنب بقية رواد الحركة الوطنية الذين ننتظر بكل تلهف مذكراتهم السقوط في بؤرة
السياسي وتمجيد الذاتي، واستدرار التعاطف برسم كتابة سينيغرافية بموغلة في الشخصية وبعيدة عن حقيقة الحدث.
1- وحدانية » الزعامة « وصراع »الصنائع«
2-
إن كان لهذه المذكرات أن تتفق فيما بينها فان ائتلافها
سيتمحور حول الريادة المطلقة لبورقيبة في قيادة الحركة الوطنية. ذلك أن هذه الشخصية ستستحوذ تدريجيا على مركز
الصدارة ضمن الأحداث التي سيشكلها الرواة للفترات التي تعرضوا لها بالتحليل. ولن
تجد مهما اجتهدت أي بديل مقنع يتصدر ولو لمدة قصيرة قمة الهرم السياسي، ويحجب
الضوء على هذه الشخصية التي يبدو وضعها محويا
(Cardinal)
داخل النسق العام للسرد أو للرواية (Récit) ولعل هذا التموضع الافرادي هو الذي يفسر فشل كل المحاولات الرامية
إلى إثبات شخصية الكاتب. هذا الذي يصر على
إشعارنا بأنه قد سجل موقفا بطوليا كلما تعلق الأمر بمواجهة أو مشادة حتى ولو كانت
سخيفة (Puérile)
بينه وبين الزعيم.
ففي مذكرات الدكتور سليمان بن سليمان(1) مثلا وعلى اثر أحداث أفريل 1938 التي
اعتقل خلالها هذا الأخير وأودع السجن بمعية رفاقه في الحزب ومن بينهم بورقيبة يشير
الكاتب إلى المكابدة التي أبداها مسجلا موقفا يبدو في اعتقادنا مسقطا يبحث صاحبه
على شيء من الضوء ضمن رؤية مفرطة في تمجيد البطل الذي أضحى » أسطورة شعبية « إذ يقول(2) : » أنا حاضر باش نموت في
الحين باش مايجيش تونسي يقول لتونسي نهار آخر توليش بورقيبة«.
ثم في موضوع آخر
وعلى اثر توجهه إلى القاهرة في بداية سنة 1948 للاطلاع بورقيبة على حقيقة مايجري
بالبلاد يسوق بن سليمان ردا حانقا »للزعيم« على اثر اعتراضه
على التحويرات التي أراد هذا الأخير إدخالها على ما أفضت إليه مناقشات الرباعي(
الحبيب ثامر، يوسف الرويسي، بورقيبة بن سليمان) حول طبيعة العلاقات بين المناضلين في
كل من تونس والقاهرة إذ يذكر(3) : » انت وحدك هكة الجمع كل مستعرفين إلى عندي مركز خاص في ا لحزب
وانتي وحدك عايشلي في الخيال، عاشلي، في السماء«...
وفي مذكرات عز الدين عزوز(4) نعتبر على واقعة بالغة الدلالة حصلت
سنة1951 بالقاهرة (5) فعلى اثر عودة بورقيبة من جولة في جنوب شرقي آسيا
زاره المؤلف بمقر إقامته وعرض عليه خطة عمل تضمن المقاومة المسلحة في تونس أقنعته
والتزم بها ووعد بتوفير الرصيد اللازم لتطبيقها. ويشير عزوز انه قد اشترط على
بورقيبة أن يمكنه من تفويض يضمن له حرية المبادرة وعدم العرقلة من طرف بقية زعماء
الحزب. وأن تكون اتصالاته به مباشرة من دون أية واسطة أخرى. وقد قبل بورقيبة كل هذه الشروط غير أن
تواتر الأحداث بعد هذا اللقاء أفصح عن معادلات جديدة: فقد جمع بورقيبة بمقر إقامته
عددا من رفاقه لتدارس الخطة التي قدمها عزوز ولتحديد الموقف منه.
ويصف الراوي الطريقة التي حصل بها هذا للاجتماع ذاكرا أن
بورقيبة قد طلب من المجموعة الجلوس أرضا آخذا موضعا وسطا داخل شكل نصف دائري طالبا
من عزوز أخذ مكان في المواجهة مما حول اللقاء إلى محتكمة ضيقت على الكاتب هامش المبادرة
وربطته برقابة تامة من طرف العناصر الدستورية وخاصة الطيب سليم وعلي الزليطني.
ولعل في هذه الصورة ما يغني عن البحث أكثر عن الهيمنة المطلقة لبورقيبة داخل الحزب
وعلى الكيفية التي كان يسير بها قيادييه الذين كانوا رهن إشارته والذين كانوا
يتنافسون في التقرب إليه حتى وإن كان ذلك حساب بعضهم البعض. وهي حقيقة تتفق تمام
الاتفاق مع ما حصل أيام » المحنة « في السجون الفرنسية وخاصة » بفور سان نيكولا « (Fort
Saint Nicolas) إذ أشار بن
سليمان إلى حادثة بسيطة وجد معبرة (6) تتمثل في الاعتراض الضمني الذي
أبداه صالح بن يوسف والهادي نويرة والمنجي سليم وعلي البلهوان على فحوى الرسالة
التي تعهد بورقيبة بتحريرها باسم المجموعة وقد طلب هؤلاء من الدكتور بن سليمان رفع
ملاحظاتهم أو تحفظاتهم لبورقيبة الذي لم يقبل المهادنة وانقطع عن القراءة وفضل
الانزواء، فما كان من المجموعة إلا أن التحقت به واستدرت رضاه. الأمر الذي جعل
بورقيبة يشدد على شخصيات رفاقه المطموسة عند استضافته للدكتور بن سليمان في
المنستير قائلا(7): »اش كنت تنجم تعمل،
مش كنت قدامي كيف الدجاج« وعموما فان حدة النماذج التي
سقناها عرضا والتي تزخر جميع المذكرات بمثيلات لها تؤكد في تصورنا وحدانية الزعامة
وتفصح عن فشل ذريع لكل محاولات الاختراق التي أبداها » المريدون« والتي جاءت هشة أمام صلابة المقدم (
Le Parrain) وقدرته على المسك بزمام الأمور
ودفع الكل إلى الالتزام بخياراته دون سواها. الأمر الذي أسكن في لاوعيهم تراوحا
بين الخوف والافتتان بهذه الشخصية التي أطبقت على مهجهم فكرس قلمهم وبصورة تكاد
تكون مفضوحة خطا دراسيا يعكس نوعا من التقارب الذي يصل إلى درجة الحميمية بينهم
وبين الزعيم الغاية منه إيجاد وسيلة لأخذ مكان الصدارة وكسب شيئا من البريق
بالانصهار في بقاع الظل النادرة التي خلفتها تلك الشخصية الماحقة.
2 – بورقيبة هيكلة للرهبة وتمثال للإعجاب والافتتان
ليس للقارئ العادي لهذه المذكرات إلا أن يعجب بشخصية
بورقيبة هذا الذي توصل في كل المناسبات إلى فرض معادلاته التي جعلت الكل يخشاه
ويحسب لمواقفه وردود فعله ألف حساب.
كما أن صراع »الصنائع« على خطب وده والالتصاق به
قد خلق حوله هالة من العظمة بات من المستحيل كسرها، والتقليص من حدتها.
وقد عبر الدكتور محمد بن سالم (8) في مذكراته
على هذه الحقيقة، في معرض حديثه عن عودة بورقيبة من فرنسا يوم غرة جوان1955 (9) » إن الفرحة قد عمت كل المناضلين بما في ذلك أولائك الذين دخلوا
ساحة المقاومة في لحظاتها الأخيرة Les combattants de la douzième heure وقد استاء بن سالم من حالة الإقصاء التي تعرض إليها
في ذلك اليوم المشهود من طرف» المتزلفين« زمن نعتهم بالمسيرين الجدد للدستور مشيرا إلى الحشود التي تراصت
أمام منزل بورقيبة والصعوبات التي كابدها لاختراقها حتى يصل إلى الداخل أين تلقاه
المنجي سليم معتذرا عن عدم السماح له بالمقابلة بحجة خلود »الزعيم« إلى شيء من
الراحة...! كما يشير عز الدين عزوز من ناحيته إلى واقعة أخرى حصلت بعد الاستقلال(10)
تبرهن على هذه السطوة المطلقة لبورقيبة اذ يذكر أنه في نهاية لقاء حصل بينه وبين
الرئيس في قصر قرطاج بعد أن تم الإفراج عليه: رفع بورقيبة يده إلى مستوى فم مخاطبه
ودعاه إلى تقبيلها. فما كان من هذا الأخير إلا أن ينفذ الأمر دون مماطلة خوفا من
سوء المنقلب وحدة التجني في حالة الرفض. أما بن سليمان فيتعرض الى الجولة التي قام
بها بورقيبة في الجنوب (11) بعد الاستقلال (ديسمبر 1959) مرفوقا بكل من
محمود الماطري والبحري قيقة والتي تعمد خلالها بورقيبة إذلال مرافقيه عند الزنزانة
التي حبس بها. متعرضا إلى تخاذلهم وخشيتهم من المستعمر وإيثارهم للسلامة بتوجيه
رسالة في الغرض الى المقيم العام.
كما أن الصحيفة الحزبية » العمل« قد نشرت وثيقة التقرير الذي يحدد المواقف المتخاذلة لجميع
الموقوفين في مقابل الموقف »الصائب« و »الثوري« لبورقيبة.
وقد عاتب بن سليمان بورقيبة على هذا التصرف قائلا (12):
» ماكاركش،
كيف استدعيتهم اتحطلهم خشمهم في أوسخهم« وهكذا فان جميع الشهادات
تتفق على وضعية التحجيم والتقزيم التي كان عليها كل الزعماء دستوريين كانوا أم
مستقلين أمام بورقيبة الذي بدا وكأنه اله ميثي (Mythique)
انبثق من أساطير الإغريق تسع رحمته المتزلفين
وتذل المارقين والمتنطعين. وهي حالة لا تجد في اعتقدنا تبريرا لها إلا في سيطرة
هذه الشخصية القاتلة على لا وعي الرواة الذين أورثوا نصوصهم شحنات عاطفية تدفع
القارئ إلى الافتتان ببورقيبة أو الرهبة منه، أكثر مما تدعوه إلى أخذ المسافة
المطلوبة ومعالجة مواقفه بحس نقدي يلغي
الصورة البطولية الموغلة في النرجسة التي اثبتتها أبواق الدعاية طيلة الثلاثين سنة
المنقضية.
3 – الذاتي والموضوعي في حقيقة التهميش
بقي أن نتساءل في موفى هذا العرض الوامض الذي أردنا منه
تلمس هذا الموضوع الشائك وتفحص دلالاته الرمزية، عن الأسباب الفعلية التي كانت
وراء تهميش هذا التلوث. والتي حاولوا جاهدين التعتيم عليها بإحلال الذاتي موضع
الصدارة على حساب الموضوعي علما أن كل من بن سالم وبن سليمان وعزوز قد نسج على
طريقته الخاصة وقائع إقصائه والمضايقات التي تعرض إليها بعد تهميشه.
فالدكتور بن سالم يشدد على المؤامرة ا لتي حاكها ضده
المتسلقون والوصوليون ويسهب في وصف التعذيب الذي ناله على يد والي القيروان عمر
شاسية الذي انهال عليه جلدا إلى حد فقدان الوعي. متناسيا ماضيه البعيد كواحد من
رموز القصر الملكي ووزير في حكومة المزالي المتواطئة مع الاستعمار وصديقا حميما
لأعدى أعداء بورقيبة ونقصد هنا صالح بن يوسف وهي في اعتقادنا أسباب كافية تجعل
الدستور وبورقيبة يرتاب منه ويعمد إلى إبعاده.
أما فيما يخص عز الدين عزوز فإن الشك في سيرته الذاتية
وحقيقة انتمائه يكفينا مؤونة تبرير المضايقات التي تعرض إليها بعد الاستقلال والتي
وصلت إلى حد ايداعه السجن وترهيبه بشتى الطرق والوسائل: فقد شارك عزوز مكرها في
انقلاب سوريا على يد حسني زعيم« سنة 1969 وشغل عدة وظائف بشركات نفط أمريكية في ليبيا. كما منحت
له التأشيرة للاستقرار والدراسة بأمريكا بعد أن ضيق عليه جواسيس بليبيا كل
امكانيات المبادرة. وحافظ على علاقات ودية مع الزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي
الذي منحه عدة ترقيات عسكرية. كما تواصلت علاقته بمنظمات وشخصيات ذات اتصال وطيد
بالصناديق الدولية أفصح لها بحقيقة الوضع بتونس أيام التجربة التعاضدية... وكلها
ممارسات تؤكد الريبة حول شخصه وتجعل القيادة الدستورية تحطاط من نواياه.
وأخيرا فان الدكتور بن سليمان يشعرنا بعمق الصداقة
والحميمية بينه وبين بورقيبة تلك التي ولدتها المحن والمواقف الموحدة من
الاستعمار، ويستغرب في ذات الآن من ردود فعل بورقيبة تجاه تشبثه بانتماءاته الشيوعية.
وهم تصرف لا يصح بالنسبة لرجل خبر الزعيم جيدا ووقف عند أدق مكونات شخصيته!
إذ يبدو بورقيبة داخل مذكراته أكثر إصرارا على استعادة
الابن الضال وإرجاعه إلى حضيرة الحزب بينما يتعنت بن سليمان مشددا على الاستقلالية
التي تبدو للقارئ جد خيالية واقرب إلى التلفيق منها الى المواقف المبدئية وعموما
فان هذه الحميمة ستتوج بلقاء مؤثر في صائفة 1973 يتم خلاله توسيم الدكتور بن
سليمان ورد جانب من اعتبار الذي هدر نتيجة لتعنت لا نجد له أي مبرر مقنع.
وخلاصة القول فان هذه النماذج المختارة التي حاولنا
ترتيبها بالشكل الذي يدعم الإشكاليات المطروحة ضمن هذا المقال لا تغني القارئ في
اعتقادنا على الاطلاع على هذه الشهادات الحية والتي
تعكس على الرغم مما قيل مناخا جديدا وجريئا يكفل
للأغلبية الساحقة من الشعب، تلك التي لم
تعش هذه الإحداث إمكانية الوقوف على دقائق الأحداث وسبر حقائقها في محاولة لتنزيل الماضي مكانته
الفعلية في الحاضر والقطع مع التصورات المرضية المسفة التي أفرزت جيلا من
المتزلفين والمرتزقة عكروا تاريخ الحركة الوطنية باراجيفهم وأكاذيبهم.
(1)Slimane Ben Slimane :
Souvenirs Politiques, ed
Cérès
Production 1989
(2)
نفس المرجع، ص 128
(3) نفس المرجع، ص 253
(4)
Ezzeddine Azzouz :
L’Histoire ne pardonne